BEGIN TYPING YOUR SEARCH ABOVE AND PRESS RETURN TO SEARCH. PRESS ESC TO CANCEL

ورقةالعمل (١( تركيا إلى أين؟ محاولة لإخراج خريطة طبوغرافيةللسياسةالتركية

محمد خيري قيرباش أوغلو
أستاذ في كلية الإلهيات، جامعة أنقره – تركيا
طرح هنا أول مرة ً أيضا. ذلك بأن الجمهورية هذا السؤال في العنوان ليس بوليد اليوم، وهو لم ي . التركية كانت حائرة منذ تأسيسها في التوصل إلى جواب صحيح ٍ ومرض للجميع عن هذا السؤال وهو في الحقيقة سؤال مرتبط بمسألة الهوية ً ارتباطا ً وثيقا، وهي من أخطر القضايا التي يتوقف عليها مستقبل البلد بسبب الانقسامات والنزاعات والمقاربات التي يعانيها في السنوات الأخيرة أكثر من الماضي. وما يدفع إلى نوع من التشاؤم هو أن تركيا بلغت ما بلغت من عدم الاستقرار ً سياسيا ً واقتصاديا ً واجتماعيا بعد تجريب جميع المقاربات الممكنة بدءاً بالعلمانية الكمالية ومروراً بالعلمانية اليسارية والعلمانية اليمينية والليبرالية، ً وصـولا إلى العلمانية الإسلامية أو – على حد تعبير زعماء الحزب الحاكم – إلى الفكر المحافظ، وهو في الحقيقة ليس إلا ً خليطا من العلمانية اليمينية والليبرالية مع صبغة مظاهر التدين الشكلي المكتفي بالخطاب والـشـعـارات والطقوس الدينية والشعارات القومية والوطنية في الحقبة الأخـيـرة، التي يجري استخدامها وتوظيفها في تحقيق مصالح سياسية.
ً أولا: السياسة التركية
تقديم صورة واضحة وموضوعية عن السياسة التركية دونه صعوبات كثيرة، أهمها ضرورة الاكتفاء بمعلومات تتعلق بما هـو معلن، أمـا الأمــور غير المعلنة فهي بحاجة إلـى تحاليل عميقة ودقيقة ثم إلى استنباطات واسقاطات مستقبلية بالاعتماد على ما يعلو على السطح بالضرورة. كل
ذلك من أجل التقليل من الآثار السلبية للتلوث المعلوماتي حول ما يجري في الساحة التركية وتجنب الخطابات النمطية الدعائية والدعاية المعاكسة، ً سعيا وراء نشر المعلومات الصحيحة وعلى أساس الموضوعية والموقف النقدي الذي هو من أساسيات أي نشاط علمي وبحثي. ١ – من أهم المشكلات حول مسألة الأهداف المعلنة وغير المعلنة والأجندات السرية ما يتجلى في مزاعم المعارضة حول محاولة السلطة الحاكمة تغيير الدستور من أجل تأسيس نظام الرجل الواحد أو نظام سلطوي، وتأثير شخصية أردوغان وزعماء الحزب الحاكم في تشكيك المعارضة في مصداقية هذه المحاولة، إذ لو كان مكان أردوغان شخص آخر ديمقراطي ًحقا لما حصل هذا التوتر والنزاع والتصادم بين الأطراف حول تغيير الدستور. ٢ – مشكلة أخـرى تعانيها السياسة التركية هـي سياسة الهويات والاستقطاب والتوتر في الداخل ومشكلة الغطرسة والمغامرة في الخارج. ٣ – هناك تنبؤات للمعسكرين، معسكر المعارضة بجميع أطيافها، وهم المتشائمون، ومعسكر أنصار الحزب الحاكم وهم المتفائلون، بل يجوز وصفهم بأنهم المتغاضون عن السلبيات والأخطاء التي تورطت فيها الحكومة الحالية، ً خوفا من أن ّ تتفلت السلطة وبركاتها من أيديهم. ولكن التطورات الأخيرة، الداخلية منها والخارجية، بدأت تدفع المتشائمين إلى رفع أصواتهم أكثر، محذرين السلطة من احتمال أن تحمل التطورات المقبلة عواصف أشد من تلك التي يشهدها المجتمع التركي في هذه الأيام نظراً إلى كبر حجم الجليد الذي تحت الماء.
ً ثانيا: طبيعة سياسة حزب العدالة والتنمية
يمكن تلخيص هذه السياسة بكلمة واحدة، هي أنها عبارة عن امتداد لسياسات الرئيس الراحل (٢ .(إلا أنها تعتمد على مستوى الخطاب على الـعـزف على وتـر المشاعر الدينية طـورغـوت أوزال على ٍ نحو ّ مكثف ومنظم وفي جميع المناسبات، وعلى العزف على وتر المشاعر القومية والوطنية في الحقبة الأخـيـرة على نحو متزايد وملحوظ. أمـا السياسة العملية والممارسات فهي لا تختلف عن سياسات الأحــزاب السابقة لها، مثل السياسة البراغماتية من دون مبالاة ّ بالهوة بين الوعود والإنجازات. ومن أخطر وأشد الاتهامات الموجهة إلى الحزب الحاكم في الداخل والخارج هي مسألة اتهامه بالازدواجية في تحويل مشروع الانضمام إلى الاتحاد الأوروبـي إلى ذريعة للوصول إلى السلطة ثم إدارة الظهر له من جهة والحفاظ على عضوية الاتحاد الجمركي الأوروبي من جهة أخرى. وفي الواقع هناك تزايد ملحوظ في الأشهر الأخيرة في تصريحات أردوغان ووزير الخارجية وتصريحات المتحدثين باسم الحكومة ما يؤيد مصداقية مثل هذه الاتهامات.
ولعل من أكبر المشكلات التي يئن تحت وطأتها الحزب وأنـصـاره هي مشكلة نفسية، وهي هـوس العظمة وجـنـون الشك والارتـيـاب الـسـائـدان والمنتشران فـي صفوف السلطة الحاكمة من الرأس إلى أخمص القدمين، كما في كوادرها وإعلامها وأنصارها ﴿يحسبون كل صيحة عليهم﴾! [المنافقون: ٤.[ وكذلك من أخطر وأشـد الاتهامات ّ الموجهة إلـى الحزب الحاكم هي الاتهامات المتزايدة في الداخل والخارج حول مسألة ّ التوجه نحو تأسيس نظام سلطوي على أساس زعامة رجل واحد غير ُساءل على ما يفعل)، وذلك باستغلال الديمقراطية وتوظيف مؤسساتها لتأسيس نوع مسؤول (لا ي من «النظام السلطوي الديمقراطي» كمرحلة انتقالية للوصول إلى «نظام سلطوي شبه وراثـي». ولعل الشائعات حول تبديل رئيس الـوزراء بوزير الطاقة يعتبرها الكثيرون من المعارضين ً نوعا (٣ (التي هي – عند هؤلاء – نتيجة طبيعية للثقافة السائدة في الحركات ما من إرهاصات هذه الخطة .  الإسلامية السياسية ً عموما وامتداد لثقافة سياسية سلطوية متوارثة من العهد العثماني تحديداً (٥(؟ في ضوء هل حزب العدالة والتنمية، هو حصان طـروادة لفتح حصن العلمانية الكمالية هـذه التطورات والـتـوتـرات ليس من المفاجئ أن تتساءل الجماهير الواسعة من المجتمع التركي وتسأل أسئلة كثيرة، على رأسها سؤال حول مصداقية أهداف الحزب الحاكم: هل هو حصان طروادة لفتح حصن العلمانية الكمالية؟ والأمر المقلق أن المؤشرات لا تبشر بالأمل بالنسبة إلى إزالة مثل هذه المخاوف والشكوك لتحقيق وحدة المجتمع والسلام الاجتماعي. الغريب أن كل هذه التطورات السلبية تقع في ظروف حساسة، حيث ينادي الحزب الحاكم بأعلى صوته بضرورة التوحد ويدعو الجميع إلى العمل المشترك لتحقيق الوحدة الوطنية، ولكن من دون اللجوء إلى المراجعة النفسية والنقد الذاتي لتدرك المفارقات والتناقضات بين الخطاب والممارسة، مع العلم أن الجو السياسي يتحول من السيئ إلى الأسوأ في وقت تغدو الحاجة فيه إلى تحسن الأوضاع حاجة حيوية ً بدلا من تدهور الأوضاع السياسية.
ً ثالثا: طبيعة الأحزاب السياسية التركية
قنا إليها أعلاه ليست منحصرة بالحزب الحاكم، أعلم أن المشكلات البنيوية والتطبيقية التي تطر بل هي ظاهرة شاملة تشمل جميع الأحزاب السياسية بنسب متفاوتة، لذلك يمكن التحدث عن ظاهرة عامة تتمحور حول مفهوم (النزعات السلطوية)، وبالتالي يمكن التحدث عن المضمون السلطوي المستور بـثـوب الديمقراطية أو الـمـظـروف السلطوي فـي ظـرف ديمقراطي (غـيـاب الديمقراطية فـي الأنظمة الداخلية لـلأحـزاب – مـع فـارق الديمقراطية النسبية فـي نظام داخـلـي لحزب الشعب الجمهوري – ونظام رجل واحد على درجات متفاوتة، في جميع الأحزاب وفي حزب العدالة والتنمية .  تحديداً) ولعل من أهـم الأسـبـاب التي أدت إلـى تـورط الحزب الحاكم في الأخـطـاء الخطيرة هو ضعف وعجز المعارضة السياسية والمدنية بسبب تبنيها العلمانية المعادية للإسلام والمسلمين وعجزها عن تقدير مركزية الدين في البنية الثقافية لمجتمع تركيا وعجزها ً أيضا عن تقدير أن الدين بجميع مظاهره هو الورقة الأقوى بيد الحزب الحاكم وزعمائه. مشكلة أخــرى خطيرة هـي تبني جميع الأحــزاب – مـن دون اسـتـثـنـاء – سياسة الاستقطاب على أسـاس القوميات والهويات (حـزب العدالة والتنمية: القومية السنية والتركية، وحـزب الشعب الجمهوري: القومية، العلمانية، العلوية، الكمالية، اليسارية، وحزب الحركة القومية: القومية التركية المتطرفة، وحزب ديمقراطية الشعوب: القومية، الكردية، العلمانية، اليسارية). ظاهرة أخرى هي امتداد للمشكلة السابقة، وهـي تصعيد الخطاب القومي الوطني التركي والخطاب التمييزي بين اليساري واليميني أو التركي والكردي، أو بين السني والشيعي/العلوي، وانتشارها وسط جماهير المواطنين من دون تمييز بين أصحاب هذه الاتجاهات. النتيجة الطبيعية لسياسات الاستقطاب على أساس القوميات والهويات هي غياب ثقافة التوافق والتعاون على أساس العقل الجماعي لمواجهة ظاهرة خطيرة، وهي تصاعد ثقافة التصادم والإقصاء والإبادة السياسية، السائدة في الأحزاب وفي الحزب الحاكم تحديداً. ومـن أضعف نقاط الأحــزاب السياسية ً عموما والـحـزب الحاكم تحديداً – من حيث أخلاقيات السياسة – هي ظاهرة ممارسة الحكم على أساس توزيع مصالح الدولة والحكومة والإدارات المحلية على أنصار الحزب الحاكم فقط، من دون المواطنين من الأحزاب المعارضة، وذلك بسبب التشوش الذهني الـذي أدى إلـى إدارة الحكومة بمنطق إدارة شركة قابضة، من دون استثناء بين الأحـزاب السياسية. ومـن الظواهر الشاملة جميع الأحــزاب هي ظاهرة سيادة ثقافة الطاعة والاستسلام للزعماء وانتشار ثقافة الزعيم الكارزمي وغياب ثقافة المعارضة داخل الأحزاب ً غيابا ً كامـلا، وبالتالي ظاهرة الإطـراء والتملق والتزلف وانتشار نموذج (الملكي أكثر من الملك) على نطاق واسـع (مثال بسيط لهذه الثقافة هي انتشار ظاهرة (إعفاء الــوزراء والـنـواب اللحى والـشـوارب). أخيراً يقال إنـه لقول .  أردوغان: رجل بشارب يكون ً رجـلا ومـن الـظـواهـر العالمية، لا الـظـواهـر الخاصة بمنطقتنا فقط، هـي سـيـادة الخطاب والـوعـود السياسية والانتهازية في المنافسة السياسية، والنفعية في ممارسة الحكم، وإثارة المشاعر الدينية والمذهبية والقومية من أجل توظيفها واستغلالها لأهداف سياسية وحزبية وغياب القيم والمبدئية، وبالتالي غياب رؤية واضحة في ما يتعلق بالتطورات المستقبلية وتعذر تقديرها ً مسبقا.
مـن القضايا الساخنة فـي السياسة التركية هـي المناقشات الشديدة حـول مبدأ الفصل بين السلطات (التشريعية والقضائية والتنفيذية)، والتصاعد الملحوظ في مزاعم المعارضة أن هناك نية سرية للتخلي عن هذ المبدأ ومحاولة ملتوية لجمع السلطات في يد رجل واحد وتشكيل سلطة مركزية موحدة. وكنتيجة طبيعية لهذه الثقافة السياسية َ يلاحظ ٌ تزايد في شدة المناقشات حول مسألة التمييز بين المواطنين في التوظيف والتعصب على توظيف أنصار الحزب الحاكم من الشباب غير المؤهلين بخاصة، والاكتفاء بـالـولاء المطلق للحزب والزعيم من دون التفات إلـى الخبرة والكفاءة وإقصاء «الآخر» من المناصب الحكومية إقصاء ً كامـلا. ومـن الظواهر الشاملة على جميع الأحــزاب السياسية – مـن دون استثناء – هـي مسألة علة التناقض وخفة الازدواجـيـة في السياسة التركية، ومـن أفضل وآخـر مثال على هـذه السلبية هو ما يلاحظ في مختلفمراحل (تطبيع العلاقات التركية – الإسرائلية ً نموذجا) من التراجعات والتناقضات. ومـن تجليات قاعدة مشهورة وهـي قـاعـدة: «السلطة تفسد والسلطة المطلقة تفسد إفساداً ً مطلقا» أن تعاني السياسة التركية في العقود الأخيرة مشكلة الفساد الإداري والاقتصادي (نزول تـركـيـا إلــى الـمـرتـبـة ٦٦ مـن بـيـن ١٦٨ دولــة بحسب تـقـريـر الـشـفـافـيـة الـدولـيـة Transparency ( (2015 International ،ومحاباة الأقرباء والتمييز الحزبي في الممارسات الحكومية وممارسات الإدارات المحلية (ومـن مزاعم المعارضة أن المثال الأخير لمثل هـذه الأمـور هو تعيين زوج ابنة أردوغان وزيراً للطاقة. وبمثل هذه الممارسات ستتحول السلطة إلى ما يشبه سلطة سلالة حاكمة . (٨) أو إلى شركة عائلية) كجزء عضوي مـن الفساد الإداري والاقـتـصـادي ظـاهـرة أخـرى متعلقة بمجال الإعــلام، وذلـك بأن هناك اتهامات متواصلة وموجهة إلى السلطة الحاكمة بتوظيف الأقلام المأجورة للقيام بدعاية (٩ (لإضفاء الشرعية على الممارسات غير الشرعية في مختلف وغسل الأدمغة على طريقة Goebbels المجالات. وبسبب الممارسات السياسية الـمـذكـورة واجـه المجتمع التركي مشكلة أخـرى هـي مسألة زعزعة الثقة بنظام القضاء وجهاز الأمن بسبب تسييسهما (نسبة الثقة بنظام القضاء ٣٠ بالمئة . فقط)
ً رابعا: حقيقة وطبيعة السياسة الخارجية التركية
تمر السياسة الخارجية التركية بتغيرات وتحولات أدت ولا تزال تؤدي إلى المناقشات الساخنة والتوترات المتصاعدة، وذلك لإصرار السلطة الحاكمة على الانفراد في توجيه السياسة الخارجية من دون مشاركة الأحزاب السياسية الأخرى ومنظمات المجتمع المدني. ومن محاور المناقشات الساخنة مزاعم المعارضة حول ظاهرة التناقضات والتراجعات في السياسة الخارجية التركية ووصفهم هـذه التناقضات والتراجعات بالفشل الـذريـع، لأن اصحاب السلطات – بحسب تقدير المعاضة – قالوا ًشيئا وعكسه، وفعلوا عكس ما قالوا، وتخلوا عن جميع مطالبهم ومزاعمهم وفشلوا في الوفاء بوعودهم، وبلغ بهم الأمـر حد ارتفاع الأصـوات في الوطن . العربي بأن «تركيا باعت القضية الفلسطينية والمعارضة السورية» ومن المسائل المتنازع عليها هي دعوى عدم الاستقرار في السياسة الخارجية التركية، فهل هي سياسة الدولة أم سياسات الحكومات! ذلك بأن السياسة الخارجية التركية عاشت تحولات من عبد الله غول إلى أردوغان ومن أردوغان إلى أحمد داود أوغلو ومن داود أوغلو إلى بن علي يلديريم، وتحولت الأهداف والاستراتيجيات والتحالفات والأساليب، وحتى اللغة الدبلوماسية تحولت إلى اللغة السوقية ً أحيانا. ومن أولى مراحل التحول كانت محاولة الخروج من الدور التقليدي إلى الدور التجديدي (من الانغلاق إلى دور الوسيط والميسر)، وهي محاولة يمكن اعتبارها ناجحة إلى حد كبير. هناك خطوة أخرى هي التحول من السياسة السلبية الانفعالية إلى سياسة الاستباق؛ وقد ّمثلت هذه المرحلة بداية السياسة التوسعية والسعي وراء الأحلام لإحياء أمجاد الدولة العثمانية. وامـتـداداً لهذا التحول الأخير بـدأ الانتقال من السياسة الواقعية السلمية إلـى سياسة توسيع دائـرة النفوذ العسكري والسياسي؛ من الطموحات إلى الأحـلام وإلى الغطرسة والتعالي والتعاظم . (حلم العثمانيين الجدد أو إحياء الخلافة العثمانية) والـمـرحـلـة الأخــيــرة والـحـالـيـة هـي مـرحـلـة الانـتـقـال مـن الـسـيـاسـة الاخـتـيـاريـة إلــى الـسـيـاسـة الاضطرارية، بمعنى أن الواقع فرض نفسه على السياسات واعترف الحزب الحاكم بأنه أخطأ في تقدير التطورات الخارجية ً عموما، وفي الأزمتين السورية والعراقية تحديداً، ويمكن تلخيص هذه المرحلة بتعبير نمطي: من شعار صفر مشكلة إلى واقع صفر جيران!. يتبين مما سبق أن السياسة الخارجية التركية في مراحلها الأخيرة كانت تعاني العجز عن تقدير التطورات في العالم ً عموما وفي . دول الجوار تحديداً ومـن تداعيات هـذا التحول محاولة تركيا تحديد مكانها في المعادلات والـتـوازنـات الإقليمية بين معسكر السنة ومعسكر الشيعة، أو بين محور الاعتدال ومحور المقاومة، أو بين حلف الناتو ومنظمة شانغهاي، أو بين منظمة التعاون الإسلامي وبين إسرائيل، وبين التوجه نحو الخروج من الجو الديمقراطي (الاتـحـاد الأوروبــي والـولايـات المتحدة الأمريكية) إلـى الجو السلطوي (روسيا والصين) للحصول على دعم دولي لنظام جديد سلطوي؟ مثال أخير للوضع النهائي في السياسة الخارجية التركية هو التخلي عن ادعاء رفع الحصار عن غزة: (إعمار غزة كسجن مفتوح من خلال إرسال المساعدات عبر السلطة الإسرائيلية الصهيونية). ومـن تـداعـيـات الـتـحـولات والـتـراجـعـات فـي السياسة الـخـارجـيـة التركية هـو انـتـشـار الأسـلـوب السوقي، على حساب الأسلوب الدبلوماسي، في صفوف الحزب الحاكم، من الأعلى إلى الأسفل أو من الرأس إلى أخمص القدمين، وانتشار السلوك المعادي والتهديدي ّ الموجه إلى «الآخر».
ً خامسا: حقيقة وطبيعة الاقتصاد التركي
منذ البداية، كان جل اهتمام الأحزاب السياسية ً منصبا على الأمور الاقتصادية أكثر من السياسة الاجتماعية. والحزب الحاكم هو آخر نموذج متطور لهذه المقاربة المادية، وبالتالي يمكن وصف النموذج الحالي بأنه «سياسة الهموم الاقتصادية». والدليل على ذلك هو تميز النموذج التركي عند الشارع العربي بالنهضة الاقتصادية. ولكن السؤال الأساسي المنسي هنا هو: النهضة الاقتصادية التركية: هل هي أسطورة أم إنها واقـع ملموس؟ للإجابة عن هـذا السؤال ينبغي النظر إلـى مجال الاقتصاد من كثب وبنظرة فاحصة. إن العمود الفقري للاقتصاد التركي هو قطاع البناء وتشجيع الاستهلاك، وبخاصة الكمالي منه، وأموال ساخنة من دول الخليج. أما المجالات الاقتصادية الأخرى فليس هناك أي تطور وتقدم ملحوظ، بل هناك مخاطر ومشكلات اقتصادية يجب التغلب عليها، من أهمها: ١ – الوقوع في فخ الدخل المتوسط ً أولا، ثم تراجع معدل الدخل القومي والفردي السنوي من ١١٫٢٧٧ دولاراً عام ٢٠١٤ إلى ٩٫٢٨٦ دولاراً عام ٢٠١٥ وإلى ٩٫٣٦٤ دولاراً عام ٢٠١٦. ٢ – ارتفاع نسبة البطالة إلى ٩٫٤ – ٩٫٧ بالمئة (٠٠٠,٨٩٥,٢ (عام ٢٠١٤ ،وهي نسبة مرتفعة؛ أما المساعدات المالية للعاطلين من العمل (٧ – ١٠ مليارات ليرة تركية) فهي ضئيلة جداً، لأنها ّ تمثل جـزءاً صغيراً من المبلغ المتراكم في صندوق البطالة (٧٨ – ٩٢ مليار ليرة تركية). والسؤال هنا هو: أين ذهب المقدار المتبقي (٧٠ – ٨٠ مليار ليرة تركية) عام ٢٠١٤؟ هناك شكوك في احتمال استغلالها لتمويل عجز الميزانية. بل صرح وزير العمل فـاروق جليك أن ٦٠ مليار ليرة تركية من رصيد صندوق البطالة (٧٩ مليار ليرة تركية) تم إنفاقها على سندات حكومية للديون الحكومية الداخلية عام ٢٠١٤ التي تتضخم بسبب إنفاق مبالغ ضخمة من الميزانية لبناء القصر الأبيض ولغير (١٤ .(وهناك معلومات تقول إن ٩٠ – ٩٣ بالمئة من إجمالي صندوق ذلك من النفقات غير الضرورية البطالة (٨٠ – ٩٠ مليار ليرة تركية) تم تحويلها لتمويل عجز الميزانية، وبالتالي تم صرف ٨٠ – ٨٣ . (١٥) مليار ليرة تركية للخزانة العامة لا إلى العمال (٢٠١٤ – ٢٠١٥ ( . (١٦) ٣ – مشكلة الضعف في التصدير ٤ – مشكلة التدهور في التوزيع العادل للدخل القومي (نصيب الـ ٢٠ بالمئة الأغنى هو ٥٠ بالمئة من إجمالي الدخل القومي، أي عشرة أضعاف نصيب الفقراءـ مقابل ٥٠ بالمئة هي نصيب . (١٧) الـ ٢٠ بالمئة الأفقر) ٥ – مشكلة الفساد الاقتصادي (تحتل تركيا المرتبة ٦٦ مـن بين ١٦٨ دولـة بحسب تقرير . (١٨) الشفافية الدولية لعام ٢٠١٥ ( ٦ – النظام الضريبي غير العادل ومشكلة فـرض الضرائب غير المباشرة (ضريبة استهلاك الوقود بنسبة ٦٠ – ٦٥ بالمئة ً نموذجا وهي نسبة عالية جداً).
٧ – الحد الأدنــى لـلأجـور ّوحـد الفقر والمجاعة (حـد المجاعة لأسـرة مـن أربـعـة أفــراد ١٤٠٥ ليرات تركية وحد الفقر ٤٥٧٨ ليرة تركية والحد الأدنى للأجور ١٣٠٠ ليرة تركية وهو أقل من حد . (١٩) المجاعة ٨ – مشكلة الأنشطة الاقتصادية غير الشرعية وغير المسجلة ً رسميا (تركيا في المرتبة الأولى . (٢٠) بين ٣٤ دولة من دول (OECD (بأعلى نسبة تبلغ ٧٢,٢٨ من الاقتصاد) ٩ – زيـادة في نسبة ديـون البطاقات الائتمانية للبنوك وتـجـاوز عـدد العاجزين عن التسديد . (٢١) ٢٫٧٠٠٫٠٠٠ نسمة ١٠ – مـحـاولات غسيل الأمــوال بإضفاء الشرعية عليها مـن خـلال إصــدار قـانـون خـاص لهذا . (٢٢) الغرض ١١ – استغلال الصناديق المختلفة (صندوق البطالة ً نموذجا) لتمويل عجز الميزانية. ١٢ – الهروب من المراقبة المالية واللجوء إلى وسائل احتيالية لتهريب تقارير ديوان المراقبة ّسست هيئات جديدة ُ ُلغيت هيئة المراقبة المالية وأ من البرلمان ً هربا من مناقشتها. من جهة أخرى، أ لتوظيف الموالين للحزب من المبتدئين عديمي الخبرة كمفتشين مساعدين للضرائب بنسبة ٦٣ . (٢٣) بالمئة من مجموع الموظفين، مقابل كبير المفتشين بنسبة ٣ بالمئة فقط ١٣ – كـابـد خـمـسـة وأربــعــون مــطــاراً مـن مـجـمـوع أربــعـة وخـمـسـيـن مــطــاراً خـسـائـر قـدرهـا . (٢٤) ٠٠٠,٠٠٠,١٢٥ ليرة تركية بحسب تقرير ديوان المراقبة المالية ١٤ – مشكلة عمالة الأطفال – السوريين منهم تحديداً – ً هربا من دفع قسط التأمين. بعدما) ٢٠١٦/٦/٣) دولار ٤١١,٥٠٠,٠٠٠,٠٠٠ الـخـارجـيـة الـديـون إجـمـالـي بـلـغ – ١٥ كـانـت الــديــون الـخـارجـيـة عـنـد وصـــول حــزب الــعــدالــة والـتـنـمـيـة إلــى الـسـلـطـة عــام ٢٠٠٣ تبلغ ٠٠٠,٠٠٠,٠٠٠,١٢٤ دولار فقط. الأمـر الـذي يجعل كل مولود من أطفال المواطنين يولد وعلى . عنقه دين بمبلغ ١٣٧,٥ دولارا وفـي ضـوء هـذه المعطيات ينبغي الـقـول إن السياسة الاقتصادية فـي تركيا فـي عهد الحزب الحاكم منذ عام ٢٠١٣ بحاجة إلى مراجعة وتصحيح. وآخر مؤشر لهذا الوضع الحساس اعتراف محمد شيمشك الوزير المسؤول عن الاقتصاد بأن الاقتصاد التركي في وضع حساس، أو بتعبير (٢٦ .(ولعل أوضـح وآخـر دليل على ذلـك هو أن يضطر أردوغــان اليوم إلى أدق «على حافة سكين» الاعتراف بالتعب الاقتصادي الذي يعانيه اقتصاد تركيا والتنبيه إلى ضرورة التدابير اللازمة للتخلص . من وطأة هذا التعب
ً سادسا: ّ تطورات المجتمع التركي: هل الأمور تزداد ً سوءا؟
هل التطورات تسير في اتجاه صحيح؟ للإجابة عن هذا السؤال يجب النظر إلى التطورات في المجالات الاجتماعية ً أيضا حتى تكتمل الصورة عند المهتمين بالشأن التركي. وللقيام بهذا التحليل لا بد من دراسة النقاط التالية: ١ – لعل أهـم وأكبر قصور في السياسة التركية هو غياب منظور سوسيولوجي في الثقافة السياسية التركية ً عموما وفـي الحكومة الحالية ً خصوصا، ومـن أبـرز العواقب الوخيمة لذلك هو مؤشر موضوعي وملموس: هيمنة «خبر أسود» و«التوتر المتصاعد» في شاشات القنوات التركية في البرامج الإخبارية والحلقات النقاشية ً يوميا! ٢ – ومن المؤشرات الخطيرة ً أيضا التراجع الملحوظ في المستوى التعليمي – في الرياضيات والعلوم ومستوى فهم النصوص بلغة الأم – بحسب معطيات البرنامج الدولي لتقييم الطلبة (PISA( لدول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD (لعام (٢٠١٥ (وتراجع تركيا إلى المرتبة ٥٠ من مجموع ٦٨ دولـة. هناك أمـر آخـر ملحوظ هو أن تركيا كدولة من دول منظمة التعاون الإسلامي، ولعلها هي الدولة الوحيدة التي تعجز عن تعليم اللغة العربية لأبنائها حتى في المدارس والكليات الدينية. ومن جانب آخر إن تركيا وفنلندا كانتا في نفس الوضع التعليمي ً تقريبا في السبعينيات، إلا أن فنلندا حققت ً تقدما ً ملحوظا غير قابل للقياس مع تركيا في عدة مجالات وفي مجال التعليم تحديداً. ٣ – مــن الــمــؤشــرات الـخـطـيـرة كـذلـك الانــحــطــاط والانــحــلال والــتــآكــل فــي الـقـيـم الأخـلاقـيـة والسلوك الاجتماعي. والأدلة على ذلك كثيرة جداً، ومن أبرزها: أ – انتشار أخبار القتل والـضـرب والـجـرح والسرقة والغصب والتحرش الجنسي وأنــواع من الوقاحة في وسائل الإعـلام، وارتفاع نسبة الطلاق وحـوادث المرور (العثور على أجزاء الجسم في ٢٨ !(إضافة معمل فرز القمامة، وارتكاب جريمة قتل لمجرد أن الضحية كان ّ يحدق في وجه القاتل) إلى ظاهرة الفساد الإداري والاقتصادي. ب – انخفاض في معدل ثقة المواطنين بعضهم ً بعضا. من كل مئة مواطن في تركيا يوجد ثمانية فقط يثقون بـالآخـر، أمـا في الصين فـ ٥٥ بالمئة من المواطنين يثقون بـالآخـر، مقابل ٦٣ .  بالمئة في سويسرا ٤ – من جهة أخرى ينبغي النظر إلى مستوى الأمن الاجتماعي. ومن اللافت للنظر التزايد في الانتقادات المتواصلة والموجهة إلـى السلطة الحاكمة بسبب الضعف الملحوظ في أجهزة الأمـن، (٣٠ .(مع إضافة ٣٩ بدليل وقوع أكثر من ٣٦٠ ً قتيـلا في سبعة عشر تفجيراً خلال السنة الفائتة فقط ً قتيـلا في الهجوم الأخير الذى حدث في اسطنبول في بداية العام الجديد. ٥ – ومـن الـمـؤشـرات ً أيـضـا حـول الـحـالـة الاجـتـمـاعـيـة هـو تـزايـد مـطـرد فـي اسـتـهـلاك الـدخـان والكحوليات (البيرة تشكل النصف مـن استهلاك الكحوليات) والـمـخـدرات وبخاصة فـي أوسـاط الشباب. ٦ – ومن السلبيات الحيوية في السياسة التركية هو قلة الاهتمام بالبيئة وإزالة الغابات بحجة بناء الـطـرق، مبررين هـذا التخريب بأنهم يقومون بغرس الشجيرات مكان مـا ُدمـر مـن الغابات، متناسين أمراً خطيراً هو أن زراعة الشجيرات بحاجة إلى عقود لتصبح غابة! وكذلك الأمر بالنسبة إلى ردم الشواطئ بالأنقاض والحطام للحصول على الأراضي لبناء مساكن فاخرة، من دون مبالاة بأضرار تعرضت لها البيئة وبتدهور واختلال السلاسل الغذائية في البحر. ٧ – ومن القضايا الاجتماعية الساخنة هي تهميش المرأة ومحاولة حصر دورهـا في الأمومة وفي المنزل، وهو ّ توجه سائد في جميع الحركات الإسلامية ً تقريبا. ٨ – أمـا غياب التفاهم والتسامح بين المسلمين أنفسهم من جهة وبين المسلمين و«الآخـر» من الأقليات من حيث المعتقد والعرق والعادات والتقاليد، من جهة أخـرى، فهو في تزايد خطير. والدليل على ذلك المناقشات الساخنة في الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب وفي مواقع التواصل الاجتماعي الإلكترونية في الأيام الأخيرة. ّة منذ البداية على عدم الاعتراف بأخطائها مع استثناء أمام كل ذلك تبدو السلطة الحاكمة مصر وحيد هو أكبر فشل ذاقته السلطة الحاكمة: فشل في مجال التعليم على جميع المستويات باعتراف الحزب الحاكم نفسه أمام التقارير الدولية المذكورة أعلاه.
ً سابعا: العودة إلى البداية: تركيا إلى أين؟
فـي ضـوء التحاليل المقدمة مـن الصعب جــداً الـقـول بنجاح التجربة السياسة التركية بكل المقاييس والمعايير، ولكنها تجربة ذات قيمة عالية وملهمة جداً لاستخراج الدروس والعبر لتركيا نفسها ولبعض دول المنطقة التي كانت تستعد لاستنساخ التجربة التركية، من دون النظر إلى السلبيات ومـواضـع الخلل. وهـي ً أصـلا تجرية للمجتمع التركي بالدرجة الأولــى، ولكن المؤشرات لا ّ تبشر بالأمل حول مدى انتشار الوعي في المجتمع التركي بالنسبة إلى أهمية وخطورة سلبيات هذه التجربة ّ لتعلم الدروس السياسية على أمل تصحيح مسارها وتقديمها خالية من هذه السلبيات التي أدت إلى خسائر مادية ومعنوية على النطاقين الشعبي والإقليمي. إلا أن التطورات الأخيرة في السياسة التركية والمراجعات والتراجعات – ولو كانت ضعيفة وغير راغبة فيها، بل مكرهة – نتيجة التصادم مع الواقع، تدفعنا إلى أن نكون متفائلين ً نسبيا لحساب تركيا كجزء لا يتجزأ من المنظقة ولحساب المنطقة نفسها. والعصا السحرية للتخلص من أخطاء وأضرار السياسات الخاطئة هي عدم الاستسلام للواقع السياسي ومتابعة التطورات فيها ببصيرة من دون التخلي عن الفكر النقدي وثقافة المعارضة والمقاومة ضد جميع التطورات المهددة لمستقبل الإنسان والكوكب كما يردد روجيه غارودي في معظم كتاباته.