BEGIN TYPING YOUR SEARCH ABOVE AND PRESS RETURN TO SEARCH. PRESS ESC TO CANCEL

الحركة الإسلامية السياسية التركية في الميزان

أ.د. محمد خيري قيرباش أوغلو*

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين وبعد:
إن الحركة الإسلامية الحديثة في تركيا حركة ذات أبعاد ثقافية وسياسية واجتماعية وهي تضم بين طياتها العديد من التيارات والاتجاهات السياسية؛ اليمينية والإسلامية وبعض عناصر الوطنية وتعود جذرها إلى التيار الإسلامي ـ بجانب تياري الوطني والعثماني- في أواخر العهد العثماني وفي بداية التجربة الجمهورية الجديدة وكانت حركة سياسية بالمعنى العام للكلمة وليست كحزب وإنما أخذت صورة الحزب السياسي في السبعينات بتأسيس حزب النظام الوطني بزعامة نجم الدين أربكان بعد تهيئة مناخ مناسب من قبل العلماء والمثقفين الذين بذلوا جهودا جبارة رغم كل الضغوط من قبل النظام العلماني الكمالي وكان للجمعيات الطلابية دور كبير في توعية الجماهير والشباب المسلم وبذلك حقق حزب النظام الوطني نجاحا ضخما في نشر فروعه علي رقعة البلاد في مدة قصيرة جدا حيث لم يشهد مثله في انتشار أحزاب أخرى علمانية كانت أو كمالية ويسارية علما بأن أربكان ما كان من الشخصيات البارزة الذين لعبوا دورَ الرائد في تهيئة جو مناسب للحزب وحشد الجماهير للانضمام إلى الحزب الإسلامي الجديد. وإنما تم اختياره رئيسا من قبل المبادرين لتأسيس الحزب الجديد بعد مشورة بينهم. ثم مر الحزب بمراحل مختلفة وأغلق مرات عديدة من قبل المحكمة الدستورية وتم تأسيسه من جديد باسم جديد بدءً من حزب „النظام الوطني“ مرورا بحزب „السلامة الوطنية“ وحزب „الرفاه“ وحزب „الفضيلة“ ووصولا إلي حزب „السعادة“ الحالي. هذا بالنسبة لما يسميه أربكان „حركة الرأي/الفكر الوطني“. وأما حزب العدالة والتنمية الذي أسسه عدد من منسوبي حزب الفضيلة إنما كان يختلف في البداية مع حزب الفضيلة في الأسلوب السياسي أو في الإستراتجية السياسية فقط ، ولكن لم يلبث حزب العدالة والتنمية أن أعلن انفصاله عن حركة „الرأي/الفكر الوطني“ ووصف نفسه بأنه حزب محافظ وليس حزبا إسلاميا كما يتصور البعض، وذلك خوفا من بعض مراكز القوي. يبدو وكأن حزب العدالة والتنمية انتقل إلى مرحلة جديدة في الآونة الأخيرة لأجل تصفية كل ما يمكن أن يكون ذريعة إلى اتهامه(!) بِ“الإسلامية“ من سلوك ومظاهر وتصرفات.
وأما أهم ملامح هذه الحركة السياسية -بجناحيها: حزب السعادة وحزب العدالة والتنمية- فهي كالتالي:
1. إنها كانت رد فعل لضغوط النظام العلماني الكمالي علي الشعب التركي المسلم بحجة خلق شعب معاصر و تقدمي لا علي أساس الهوية الإسلامية بل على أساس هوية متغربة/ مستغربة وغير إسلامية، وكذلك الأمر بالنسبة لحزب العدالة والتنمية فإنه إنما حصل على الأغلبية الساحقة في البرلمان كرد فعل الشعب المسلم على الضغوط التي مارسها الجيش وبعض مراكز القوى في عملية 28 شباط/فبراير 1997.هذا في رأي و في رأي آخر كان ايصال حزب العدالة و التنمية الي السلطة أمرا مخططا و مؤيدا من قبل مراكز القوى الغربية و على رأسها النظام الأمريكي استعدادا لانجاز مشروع الشرق الأوسط الكبير بالتعاون مع حزب اسلامي و ذلك لمواجهة معارضة اسلامية متوفعة ضد احتلال العراق وضد التحركات العسكرية و السياسية تجاه المنطقة أو للتخفيف من شدة المعارضة على الأقل .
2. وعلي مستوي الخطاب الرسمي و العلني لم تصرح ولم تعترف بأنها حركة إسلامية، ولم تصف نفسها بذلك ولم تدع إلي تطبيق الشريعة؛ بل أصر علي أنها تعتمد علي القيم الوطنية وتدعو إلي إحيائها فقط، كما تخلى حزب العدالة والتنمية عن „الإسلامية“ وتبنى هوية سياسية „محافظة“.الأمر الذي يدل علي عدم الشفافية والصراحة و اختيار أسلوب سياسي ملتوي و مبطن علي أساس التقية المعروفة عند الشيعة غالبا و علي التراجع بالنسبة لحزب العدالة و التنمية أمام الضغوط و التخلي عن كثير من المبادئ الاسلامية و تم الأمر باستبدال الهوية الاسلامية المبطنة بهوية محافظ التي يحيطها الغموض و النفعية السياسية .
3. رغم مرور أكثر من ثلاثين عاما لم تستخدم هذه الحركة العنف – ولو مرة – كوسيلة للوصول إلي أهداف سياسية، مع أنها لجأت إلى استخدام أسلوب متشدد أحيانا.
4. لم تحاول تغيير النظام العلماني جذريا ولم تقدم أي مشروع شامل لتغييره خلافا لما هو سائد في الحركات الاسلامية السياسية الأخرى . ولكنها قامت ببعض تغييرات جزئية وثانوية داخل النظام العلماني دون أن تلمس الدستور والقوانين والمؤسسات الدستورية ولم تقترح دستورا جديدا أكثر ديموقراطية وأكثر ملائمة لرغبات الجماهير المسلمة. هذا بالنسبة لحركة الرأي الوطني و أما حكومة حزب العدالة و التنمية فلم يتردد في تبني مشروع الانضام الي الاتحاد الأوروبي بحماس , المشروع الذي كان يصفه أبكان منذ ثلاثين سنة بأنه نادي مسيحي , مع الاشارة الي أن أربكان نفسه قد وقع بازدواجية و تناقض صريح بتقدمه الي محكمة حقوق الانسان الاوروبية معترفا بذلك مشروعية هذا النادي المسيحي !
5. هذه الحركة في الحقيقة كانت ولا تزال تعتمد علي الخطاب والمظاهر أكثر من اعتمادها على العمل والتغيير . و الذي فهمه من الوصول إلى السلطة لم يتجاوز تولي المتدينين المناصب الحكومية و الاهتمام ببعض شعائر دينية و الاكتفاء بالمظاهر . أما علي مستوي الخطاب السياسي الداخلي (بشكل غير رسمي وغير معلن) فإنها تريد أن تعيد بناء الدولة علي أساس أيديولوجية „الرأي/الفكر الوطني“ ولكنها أيديولوجية تعتمد علي أفكار مسبقة وأسس غير علمية وهي تشبه (اليوطوبيا) من جهة وأيديولوجيات قبل السبعينات من حيث تغيير النظام من فوق عن طريق الاستيلاء علي الحكومة من جهة أخرى ولكن التجربة التي عاشتها الحركة أثبتت بأن المجال السياسي المسموح للأحزاب السياسية دستوريا ضيق جدا (علي حدود % 20ـ30) وأما الباقي (% 70 ـ 80) فمتوزع على مراكز القوى التالية أي المؤسسات الدستورية؛ مثل رئاسة الدولة، والمحكمة الدستورية، والجيش، والمجلس الأعلى للجامعات، ومحكمة التمييز، وديوان العدالة، وديوان المحاسبة/المراقبة، وغير ذلك من المؤسسات.
6. ومن أخطائها الإستراتيجية إهمال أو تغاضي الحركة عن دور قطاعات واسعة ومؤثرة من المجتمع المدني مثل إتحاد رجال الأعمال وعالم الإعلام والنقابات وقطاعات أخري وخاصة القطاعات التي تدافع عن أيديولوجية الدولة بحماس وتساند مع المؤسسات الدستورية و من ضمنها الجيش ( وبصراحة أن الجيش عنصر هام للحفاظ علي النظم الموجودة في جميع البلاد الإسلامية كما يشير إليه الأستاذ حسن حنفي دائما بقوله: „في الماضي كان“ الأئمة من قريش“ وأما اليوم „الإمامة في الجيش“ ).الأمر الذي يدفع الحركة الي التراجع دائما عن الخطوات التي خطتها أمام أي ضغط سياسيي و لذلك نجدها تعيد نفس التجربة الفاشلة في كل محاولة و تبدأ من الصفر بعد تسجيل تقدم نسبي الي الأمام دون تفقد مواضع الأخطاء الاستراتيجية لتصحيحها و اعادة تصييغها من جديد . ربما كان هذا التراجع هو الدافع الي الاختلاف و الشقاق داخل حركة الرأي الوطني التي عاشت تجربة سياسة التراجع ثلاثين سنة تقريبا و السبب في ولادة حزب جديد من رحمها .
7. كانت ولا تزال الحركة موضع شك من حيث موالاتها للنظام في نظر المؤسسات الدستورية والجهات الأخرى المتساندة معها وكانت النتيجة الطبيعية بالنسبة للحركة هي سياسة صراع وتوتر بينها وبين مراكز القوي وليست سياسة صراحة علي أساس الحوار والتفاهم و التدرج ولكن يجب أن نذكركم بأن حظ الأسد في إيجاد هذه السلبية هو للمؤسسات الدستورية والجهات المؤيدة لها.و لا شك أن الحركة زادت الأمر بللا ببعض تصرفاتها الطفلية بجانب خطابها المزدوج , المبطن الداخلي مع الرسمي العلني وكانت حصيلة أكثر من ثلاثين سنة , تراجع بعد كل تقدم و عودة الي نقطة الصفر بعد كل محاولة دون تغيير بنيوي و دائم في النظام السيايي و الدستوري .
8. من أهم المآخذ علي الحركة أنها انطلقت في مسيرتها السياسية الحزبية دون أي تحليل سياسي ودستوري وقانوني واجتماعي وثقافي للمجتمع والدولة ولمراكز القوي الداخلية والخارجية ودون أي استعداد فكري وعلمي ضمن مشروع شامل ومتكامل.و أغرب من ذلك هو أن لا تحس الحركة حاجة لمراجعة مواقفها من القضايا الكبرى و المشكلات الرئيسية و اكتفاؤها بالخطابات و الشعارات التي أثبتت التجارب عدم جدواها علي مضي أكثر من ثلاثين سنة .و ليس من المعقول لمثل هذه الحركة تغاضي التغيرات و التطورات السياسية و الاقتصادية و الفكرية الخ. علي الصعيد المحلي و الاقليمي و العالمي دون مواكبتها علي مستوي النظرية و التطبيق بالرغم من وجود مراكز البحوث التابعة للحزب منذ البداية و لكنها مؤسسات علي ورقة فقط و ليس لها أي نشاط يذكر و ليس عندها كوادر مهنيين للدراسة و البحث العلمي سوى عدد من المتطوعين بل المتزلفين الذين يطمعون ترشيحهم من قبل الحزب في القادم مرشحا في الانتخابات البرلمانية أو تعيينهم لمناصب حكومية بعيدين عن الفكر النقدي و التجديدي الابداعي . هذا بالنسبة لحركة الرأي الوطني و أما حزب العدالة و التنمية فالأمر أسوأ بالنسبة اليه لأنه لا يملك ما يملكه حزب أربكان من المراكز و لو علي ورقة , بل هناك مستشاريون من داخل البرلمان و خارجها أغلبهم متهمين بالنفعية و الانتهازية و الفساد و العمل لمصالح الغرب و خاصة لمصالح الولايات المتحدة الأمريكية و أكثرهم ليسوا خبراء و متخصصين .
9. وأخطر من ذلك أنها لم تدرك حتى الآن أهمية إعادة النظر في تراثها الديني وضرورة تجديد موروثاتها القديمة وترتيب الأولويات حسب مقتضيات العصر وظروف المجتمع ولذلك يعتبر مفهوم „الإسلام“ عندهم إسلاما شعبيا و تقليديا بما فيه من النزعات الصوفية والتيارات الدينية الجماعية المختلفة والذي يزيد الأمر بلة انغلاقها علي فكرة التجديد انغلاقا كاملا وعدم السماح لأية محاولة لمناقشة إسلامها الموروث فضلا عن نقدها وتبديلها وتغييرها وبالتالي عدم التفاتها إلى التطورات الهائلة في الدراسات الإسلامية الحديثة والفكر الإسلامي المعاصر في العالم الإسلامي وفي الغرب الا في مواضع الضرورة المحدودة و علي مستوي الخطاب فقط دون تبني مخلص و ممارسة مخلصة لفكرة المراجعة و النقد و التجديد . اما حزب العدالة والتنمية فبالرغم من تصريحه في البداية بأنه تبني موقفا تجديديا ما لبث أن تخلي عن هذا الموقف و أعلن انتماءه الي التيارالمحافظ و أناط كل ما يتعلق بالاسلام و الشؤون الدينية الي وزير الدولة المسؤول عن الرئاسة الشؤون الدينية و لكنه اختار الشعبية السياسية علي الاهتمام بالقضايا الاسلامية و بتحديد دور الاسلام في المجتمع بشكل سليم و بوجه يمنع التوتر و الصراع بين الشعب المسلم و بين مراكز القوي العلمانية الكمالية اليسارية في الداخل و مراكز القوي الخارجية و أما الرئاسة الشؤون الدينية التابعة لوزير الدولة الذي تميز قبل دخوله في السياسة بالانفتاح وبالفكر التنويري و التجديدي فتعمل من أجل نشر و ترسيخ الاسلام التقليدي متمثلا بسياسة الدولة العميقة – علي حد تعبير البعض – من عدم السماح للاسلام بالحضور في مجالات المجتمع و ابقائه محصورا في الحياة الفردية و الممارسات الطقوسية دون محاولة توجيه المجتمع توجيها اسلاميا .و لذلك نجد حزب العدالة و التنمية أنه قد أسقط قضية الحجاب من أجندته و قدم الي محكمة حقوق والانسان الأوروبية تقريرا ضد القضية و لمصلحة الدولة المانعة من دخول الطالبات الي الجامعات محجبة بالاضافة الي مشاركة الحكومة و تأييدها الصريح في نشر الاسلام المعتدل الذي أصبح شعارا لمشروع الشرق الأوسط الكبير.
10. اعتمادها علي السياسة الاقتصادية والإدارية الحكومية وإهمالها السياسة الاجتماعية وعجزها عن توعية الجماهير وتوجيهها وفق أهدافها السياسية وذلك لعدم إدراكها أهمية دور المجتمع المدني في صنع القرارات و تفكيرها الخاطئ في أن الأغلبية في البرلمان تعطيها قدرة مطلقة لتحقيق ما تريد بالرغم من تجارب عديدة لمدة أكثر من ثلاثين سنة أثبتت بطلان مثل هذا التفكير و لكن الغريب عدم استفادة حزب العدالة و التنمية من هذه التجارب و مواصلته لممارسة السياسة الخاطئة نفسها .
11. غياب الروح الشوروي/الديموقراطي والممارسات الشوروية/الديموقراطية داخل الحزب وسيطرة الفكر الاستبدادي والممارسات الاستبدادية فيه وذلك بسبب فهمها الخاطئ للشورى واعتبارها إياه عملية استشارية غير ملزمة.علما بأن الاستبداد أمر شائع في جميع الأحزاب السياسية دون استثناء و ذلك خلافا لخطاباتها الصريحة و االمؤيدة لمبدأ الديموقراطية كنظام سياسي و نظام داخلي للأحزاب
12. موقفها من المرأة المسلمة يعتبر تراجعا عن النموذج الإسلامي الأصيل لأن نظرتها إلى المرأة نظرة استعلاء، ذلك بأنهم يعتقدون أن الرئاسة بكل معانيها وأنواعها هي من حق الرجال وليس للنساء إلا طاعة الرجال وليس من حقها أن تطالب بأي منصب سياسي أو إداري لا في الحكومة ولا في الحزب وإنما واجبها العمل من أجل إيصال الرجال إلي السلطة. هذا بالإضافة إلى ممارسات التمييز الجنسي أو التفرقة الجنسية في شتي المجالات بحجة تطبيق الشريعة.و أما الخطاب الرسمي العلني في ذلك فيعتمد علي نفي مثل هذه الانتقادات و الممارسات وفقا لمبدأ التقية أو ازدواجية الخطاب الرسمي العلني والخطاب الداخلي المبطن.
13. أما السياسة الخارجية فكانت مركزة على تطوير العلاقات مع العالم الإسلامي وتدعيمها انطلاقا من مبدأ توحيد „الأمة“ مقابل مشروع الانضمام إلي الإتحاد الأوروبي كمشروع حضاري رسمي للدولة مع إبقاء العلاقات الاقتصادية والسياسية مع الغرب. وأما قضية فلسطين والاحتلال الإسرائيلي وسياسة أمريكا تجاه العالم الإسلامي؛ فإن الحركة الإسلامية اضطرت الي تبني مشروع الانضمام الي الاتحاد الاوروبي و إلى أن توقع اتفاقية مع إسرائيل رغم خطابها السياسي الموجه للجماهير وموقفها الصريح ضد الاتحاد الاوروبي كنادي مسيحي و الصهيونية. والأمر مختلف تماما بالنسبة لحزب العدالة والتنمية؛ فإنه تبنى مشروع الانضمام إلي الإتحاد الأوروبي كمشروع أساسي، وكذلك الأمر بالنسبة للعلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية؛ فإنه أعلن موالاته لها في سياساتها العالمية والمحلية؛ بل صرح بأنه شريك إستراتيجي لها في مشروع „الشرق الأوسط الكبير“ مع العلم بأنه مشروع ضد العالم الإسلامي ولتحقيق مصالحها وأهدافها السياسية وهي السيطرة علي موارد العالم وإيجاد نظام عالمي ذات قطب واحد. وبلغ الأمر بحزب العدالة والتنمية إلي التغاضي عن الجانب السياسي والعسكري لمشروع الشرق الأوسط الكبير. هذا من جهة وأما من جهة أخرى فإنه يواصل سياسة أربكان الموجهة إلي العالم الإسلامي ولكن ليس للوقوف ضد السياسات الاستعمارية كما كان يخططه أربكان بل يبدو وكأنها لتأييد السياسة الأمريكية –طوعا أو كرها- لإخضاع العالم الإسلامي أمام رغباتها السياسية والاقتصادية.
14. من الناحية السياسة الاقتصادية فإن تجربة الحركة بزعامة أربكان كانت ناجحة إلي حد كبير وخاصة فيما يتعلق برفع مستوى الطبقات ذات الدخل المحدود وبمنع الإسراف وبمحاربة الرشوة والاختلاس ، نتيجة الفساد الإداري. وتعتبر فترة أربكان أنظف بكثير مقارنة بممارسات حزب العدالة والتنمية التي كثيرا ما تتعرض إلى تُهم الفساد.
15. أكبر فشل عرفته الحركة بفترتي أربكان وأردوغان هو من ناحية السياسة الاجتماعية و الثقافية وذلك لعدم إدراك أربكان كمهندس ميكانيكي أهمية التطورات الاجتماعية و الثقافية في مختلف الميادين وضرورة دراسة الخلفيات من منظور علم الاجتماع والفكر السياسي والفلسفي وكذلك الأمر بالنسبة لأردوغان لبعده عن النظرة الاجتماعية والفلسفية و الثقافية ولاستغنائهما عن العلم والمعرفة والثقافة والفلسفة حتى عن فلسفة السياسة و نظرتهما الي مثل هذه الامور بنظرة براغماتية وخاصة نظرة أربكان الي العلم كأنه عبارة عن التقنية !
سحب الحركة السياسية الاسلامية التركية الي أرض الواقع , أين النجاح وأين الفشل؟ إيجابيات وسلبيات:
ماذا نملك بعد كل هذه المحاولات والتجارب السياسية لأكثر من ثلاثين سنة؟ جو ومناخ سياسي واجتماعي خانق نتيجة ضغوط الأيديولوجية العلمانية الكمالية علي الشعب المسلم وغياب الديموقراطية الحقيقية وتقديم إيديولوجية العلمانية علي حساب الديموقراطية والحريات , والفشل في محاولة تعرية الدولة مبدئيا من جميع الأيديولوجيات بدء من الأيديولوجية الكمالية وانتهاء بإيديولوجيات أخرى إسلامية أو غير إسلامية، والفشل في إيجاد حل وسط لتحديد مكانة الإسلام في المجتمع بعيدا عن أفكار مسبقة وأوهام وملاحظات نفعية ومصالح شخصية واستغلال سياسي للإسلام. والذي نشاهده في جانب حزب السعادة هو عزلة نفسية وانغلاق علي النفس وميل إلى تشدد ديني في الخطاب والممارسات، حيث بلغ الأمر بوسائل الإعلام المؤيدة لحزب السعادة و المتعاطفة معها في الآونة الأخيرة إلى الإنهماك في نشر الخرافات و المعلومات غير صحيحة عن الاسلام و المسيئة لسمعته ولسمعة المسلمين (مثل الدعوة الى إنتظارظهور المهدي والي عقيدة الجبر المطلق الى درجة تفسير الحوادث المرورية بالقدر مثلا ) وأما ما نشاهده في جانب حزب العدالة والتنمية فهو باختصار شديد تسيير النظام العلماني بيد الإسلاميين وتزلف الإسلاميين إلى النظام العلماني، والتراجع أمام أي ضغط عسكري وإعلامي وسياسي داخليا كان أم خارجيا وتكيفهم مع السياسات و الممارسات الرأسمالية وتبني طراز الحياة الحديثة الاستهلاكية والتخلي عن كثير من المبادئ الإسلامية والتعاليم الإسلامية( مثل تصريحات بعض الوزراء أمام وسائل الإعلام بأنه خبير في تحديد ما هو جيد من المسكرات و خاضة الخمر منها و أنه ما كان يريد أن يتزوج محجبة , إضافة الى ممارسات بعض النواب في البرلمان من ضرب الزوجات و بعض ممارسات الخيانة الزوجية و الدعوة الى تحديد معنى الربا من جديد و ترك مفهوم البنك الاسلامي و بعض ممارسات الفساد و الإختلاس و الكسب غير المشروع مستغلا بمناصب حكومية و سياسية و إدارية مثلا) .وبالرغم من كل هذه السلبيات التي لا يمكن الموافقة عليها اسلاميا نجد حزب العدالة و التنمية لا يتحرج من استغلال الدين في خطاباته السياسية . وعلي مضى أكثر من ثلاثين سنة لم تتخلص الجماهير لا من التوتر والصراع القائم بين الشعب والدولة منذ تأسيس الجمهورية حول قضايا الحريات وخاصة حريات دينية بجميع أنواعها؛ حرية الحجاب والعمل في الدوائر الرسمية محجبة ومواصلة التعليم العالي محجبة وحرية تأسيس مؤسسات تعليمية إسلامية خاصة وحرية التعليم العالي في الجامعات لمتخرجي مدارس الأئمة والخطباء؛ ولا من المضايقات المالية وضيق المعيشة والبطالة والفقر وضغوط نظام الضرائب غير العادل وتوزيع غير عادل للدخل الوطني، وتصاعد التحلل الأخلاقي. قد يعارض البعض علي هذه الصورة المتشائمة بحجة ارتفاع معدل الدخل الوطني إلى حوالي 5000$ ولكن الأمر ليس بهذه البساطة لأن ارتفاع المعدل لا يعني ارتفاع معدل الدخل عند الجماهير الفقيرة بل هو ارتفاع الدخل عند الأقلية الثرية أو بتعبير آخر زيادة غنى الغني علي حساب الفقير ولا يزال توزيع الدخل بشكل غير عادل من أكبر المشكلات الاقتصادية والاجتماعية فإذن المشكلة قائمة دون أي حل عادل وإنساني وإسلامي.
هذا من جانب و من جانب آخر يجب أن نعترف بأن الحركة بشقيها – إن صح التعبير – قد حققت نجاحا كبيرا فى مجال الإدارات المحلية و كان لهذا النجاح أثر كبير فى تحقيق نجاحها فى المجال السياسي أيضا.
هذا تحليل لا من موقف موضوعي وحسب، بل ومثالي أيضا بالإضافة الى أنه تحليل من الداخل و ليس من الخارج نظرا لارتباط كاتب هذا البحث بالحركة منذ البداية وقد يقوم البعض بتحليل أكثر إيجابية مقارنة بممارسات الأحزاب والحكومات الأخرى وقد يدعي زعماء هذه الحركة ومؤيدوها نجاحها بغض النظر عن نقاط الفشل، ولكن واجب العلماء والمثقفين ليس التزلف أو التملق للسلطة ولو كانت تحمل لافتة „إسلامية“؛ بل الواجب عليهم أن يقوموا بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا يمكن ذلك إلا باستخدام منهج موضوعي ونقدي مع الارتكاز علي الممارسات دون الاغترار بالخطابات و الشعارات.

تعليقات علي الكتابات في العالم العربي عن الحركة الاسلامية السياسية في تركيا

لقد اطلعت علي بعض الكتابات حول الموضوع بعد كتابة هذه السطور و رأيت تطابقا كبيرا بينها و بين ما كتبت فيها غير أن بحثي يغلب عليه الموقف المثالي و بالتالي النقدي أكثر بالنسبة لهذه الكتابات و أذكر هنا ثلاثة كتب علي سبيل المثال و هي كتابا محمد نور الدين,( قبعة و عمامة مدخل الي الحركات الاسلامية في تركيا, بيروت 1997 ) و ( تركيا الجمهورية الحائرة , بيروت 1998) و كتاب ادريس بووانو ( اسلاميو تركيا … العثمانيون الجدد , بيروت 2005)
أولا : ملاحظات عامة
1 . الكتب الثلاثة مشتركة في تضخيم دور الطرق الصوفية في الحركات الاسلامية السياسية في تركيا أكثر مما يستحق و تغفل عن دور جمعيات طلابية ذات التوجه الاسلامي علما بأن كوادر هذه الحركات السياسية أغلبهم كانوا من نشطاء في مثل هذه الجمعيات أثناء دراستهم الجامعية .و كذلك الأمر بالنسبة لدور النقابات العمالية ذات التوجه الاسلامي .
2 . مما تغفل هذه الكتب الثلاثة هو دور و أثر الحركات الاسلامية و خاصة الساسية منها في العالم الاسلامي مثل حركة الاخوان المسلمين بجميع فروعها في العالم الاسلامي و حركة المودودي السياسي في باكستان و الثورة الاسلامية في ايران و غير ذلك من الحركات الاسلامية السياسية و غير السياسية .
3. الغفلة عن أو التقلل من دور الرئيس الراحل طورغوت أوزال الكبير في مراحل عديدة منذ السبعينات و خاصة في فترتي رئاسة الوزراء ورئاسة الدولة في انفتاح تركيا علي العالم و منه العالم الاسلامي في مجالات مختلفة و خاصة في مجال الاقتصاد و تشجيعه لرجال الأعمال الملتزمين بمبادئ اسلامية نحو نهضة اقتصادية شاملة في الأناضول مقابل رجال الأعمال ذات التوجه الي الغرب و القيم العلمانية والغربية , لاقامة التوازن بين الطرفين و أضف الي ذلك, التقليل من شأن أوزال رغم الاشارة الي الدور الذي لعبه في نمو الحركات الاسلامية السياسية و لو بشكل غير مباشر . و جدير بالذكر أن فترة أوزال شهدت تغيرات في مجال التعليم لم نشهدها فى حكومات أربكان كما هو الأمر بالنسبة لكتاب محمد نور الدين ( قبعة و عمامة , ص, 29 )
4 . اكتفاء الكاتبن غالبا بالأسلوب التصويري دون أية تقييم أو نقد للآراء و الممارسات التي تقدم بسم الاسلام أو التي يعتقدها الرأي العام كذلك .
5. تصنيف بعض الصحف و المجلات و المحطات التلفيزيونية داخل التيارات الاسلامية ( مثل صحيفة تركيا و غندوز ومجلة ألتين أولوق و بيزيم دركاه و محطة تلفيزيونية TGRT , mesaj tv) انما يصح هذا التصنيف تجاوزا لا حقيقة , نظرا لغياب أية مشروع اسلامي شامل عندهم نحو أسلمة المجتمع سوى المحافظة علي الهوية الاسلامية علي مستوي الأفراد أو سوى الحفاظ علي الاسلام الشعبي التقليدي و الاسلام الرسمي.
6. غلبت علي المعلومات المقدمة عن الجماعات و الطرق الصوفبة سمة حسن الظن يشكل عام دون أي اشارة الي السلبيات كما هو الامر بالنسبة للطريقة النورية و الطريقة السليمانية و الطريقة الايشيكشية رغم أن هذه الطرق خرجت من أن تكون طرقا صوفية أو جماعات اسلامية بالمعنى المتعارف الي شركات قابضة و لم يقف الامر عند هذا الحد بل تجاوز الي افلاس بنك الاشيكشيين İhlas Finans)) مثلا نتيجة الفساد و الاختلاس و بالتالي الي تغشيش المودعين الذين أودعوا فلوسهم في هذا البنك ثقة بتدين مسؤوليه وبلغ الأمر الي أن أصبحت كلمة( الاخلاص ) في الرأي العام مرادف ( الاخلاس ) و ( الافلاس ).
7. تضخيم أمر بعض المنظمات كأنها منظمة ذات أهمية و لكنها في الحقيقة ليست الا شبه مسرحية للأطفال مثل اتحاد الجمعيات و الجماعات الاسلامية التي لا عبرة بها عند جماهير المسلمين و انما تعتبرها جهات رسمية , تركية و آلمانية للاستغلال السياسيي و ذلك للاحتجاج علي ما يسمونه بالخطر الاسلامي و لتبرير ممارسات الضغط علي الاسلاميين الذين يعتبرهم النظام التركي من أشد المعارضة خطرا عليه .
8 . تمييز الحركة الاسلامية السياسية التركية عن الأحزاب الاسلامية الأخري في العالم من حيث أن زعماء و كوادرها ليسوا رجال دين , أمر يحتاج الي المراجعة , لأن عدم وجود العلماء و المفكرين الاسلاميين بين صفوف الحركة , من زعيم و كوادر قيادية , أمر له سلبياته أيضا و خاصة في التجربة التركية التي عاني و لا يزال يعاني من أزمات فكرية و سياسية بسبب معلومات خاطئة و غير صحيحة عن الاسلام و بسبب عدم التفاتهم بالدراسات الاسلامية المعاصرة و نتائجها .
9 . معلومات غير دقيقة عن بعض الشخصيات قد تؤدي الي الالتباس أو عدم توضح الامور كوصف سليمان قره غولله بأنه دكتور و هو في الحقيقة ليس بدكتور لأنه لم يحصل علي درجة الدكتوراه و لو حصل ربما لم يقدم يوطوبيا النظام العادل الي أربكان و لا هو اعتبره أساسا لخطاب حزبه و برنامجه . لأن النظام العادل ليس الا خليط التعميمات الكبيرة و الخطابات السياسية المعتمدة عليها و هو ليس نظاما سياسيا و اقتصاديا و اجتماعيا بل هو تصور مجتمع ميكانيكي وهمي يعمل علي أسس هندسي بشكل ميكانيكي خاضع لقوانين فيزيائية لا لقوانين اجتماعية اضافة الي تفسيرات قسرية للتعاليم الاسلامية باسم الاجتهاد و التجديد علما بأن كاتب هذا البحث مع عدد من العلماء كان من أول من قام بنقد النظام العادل في صيغته التي قدمه قره غولله ومعاونيه نقدا منهجيا و أبستمولوجيا و كان ذلك ضمن عمل مخطط من قبل الحزب لمناقشته و تصحيحه و لكن هذا العمل المشترك قد انتهي دون الوصول الي نتائج ملموسة و مرضية للطرفين .
10 . الاهتمام بالخطابات و الكتابات دون الممارسات قد يؤدي الي تقديم صورة ناقصة عن الحقائق كما هو الأمر في دعوى تبني أربكان مبدأ الاجتهاد ( قبعة و عمامة , ص, 61) لأن مفهوم الاجتهاد لم يكن يوما لا في الكوادر القيادية و لا في الأوساط الموالية للحزب مفهوما له شرعيته فضلا من أن يكون مفهوما مركزيا علي مستوي الخطاب و الممارسة .
11 . هناك سمة عامة في جميع مقاربات عربية للحركة الاسلامية السياسية التركية و هي نوع من الرومانسية و التفاؤلية التي قد تؤدي أيضا الي تقديم صورة ناقصة عن الحقائق و كثيرا ما تحول هذه الرومانسية أو التفاؤلية تحاليل سياسية الي تمنيات للكتاب أو تؤدي الي تقديم الوقائع لا كما هي بل كما يريده الكاتب . و علي سبيل المثال , كثيرا ما نسمع و نقرأ في العالم العربي و الاسلامي بأن علاقة الدين و الدولة , أو علاقة الاسلام بالديموقراطية قد وصلت الي حل وسط في تركيا و هذا خطاب سياسي قد يتبناها الأوساط العلمانية أيضا و لكنه خلاف الواقع تماما لأن النزاع بين الاسلام و النظام العلماني ما زال قائما و لم تخف من شدته أصلا يوما ما . و أما ما يعتبره الكتاب في العالم الاسلامي تحسنا في هذه العلاقة أو حلا وسطا أنما هو مناورات سياسية و تكتيكية و ليس من تغير بنيوي في شىء و المتابع للتطورات السياسية في تركيا يتأكد من ذلك . و من أجل ذلك يبدو التوقعات عن دفع النظام العلماني نحو نموزج اسلامي ديموقراطي معاصر( قبعة و عمامة , ص, 67), غير واقعية طالما استمرت الشروط الراهنة في تركيا و لم يحدث تغير جدري و بنيوي في النظام .
12 . تظهر الرومانسية نفسها في الاعتداد ببعض أحلام أربكان , علي حد تعبير محمد نور الدين , مثل تشكيل منظمة الأمم المتحدة للدول الاسلامية و منظمة التعاون الدفاعي المشترك و منظمة و اتحاد السوق المشتركة و وحدة نقد مشتركة و منظمة التعاون الثقافي , للدول الاسلامية ( قبعة و عمامة , ص , 77,76) و محاولة أربكان لتجسيد حلمه استخدام اتحاد الجماعات الاسلامية كأداة تقدم لنا فكرة جيدة عن مدي واقعيتها , لأن مثل هذه المنظمات موجودة داخل منظمة المؤتمر الاسلامي منذ زمن طويلة و لكن لا أثر لها في حل مشكلات العالم الاسلامي و لا دور يذكر في توجيه المجتمعات الاسلامية نحو مستقبل أفضل بل هي الي النوادي الثقافية أقرب . و الحالة هذه , لن يتجاوز تشكيل منظمات جديدة بالاسماء و اللافتات نفسها أن تكون اضافات جديدة لقائمة المنظمات الفاشلة أو البعيدة عن تحقيق طموحات العالم الاسلامي المستقبلية و لن يزيد المسلمين الا خيبة أمل .
13 . أما برغماتية أربكان التي تصل الي حد الاثارة علي حد تعبير محمد نور الدين و تحاشيه مثلا توجيه أي انتقاد نحو تدنيس الأراضي المقدسة بمجيء القوات الغربية الي الأراضي السعودية ( قبعة و عمامة , ص , 78 )فليست الا تراجع عن مبدأ الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر لأن سكوت زعيم اسلامي أمام خطوات التي يخطوها بعض الرؤساء في العالم الاسلامي من أجل الحفاظ علي العرش علي حساب أمن المنطقة , بل أمن العالم الاسلامي ليس لهذا السكوت معني سوى الرضي بالمنكر ولكن الرضي بالمنكر منكر أيضا علما بأن ترك هذا المبدأ الاسلامي العظيم دون تطبيق , من أكبر العوامل المؤدية الي سقوط المجتمعات الاسلامية في الماضي و الحاضر و أي منكر أشد و أعظم من دعوة الكفار الي الأراضي الاسلامية المقدسة ؟ والذي يبدو و كأن زعيم الحركة الاسلامية اعتبر البراغماتية مبدأ اسلاميا ناسيا أنه هو الذي تميز في الساحة الساسية عن الأحزاب الأخرى بانطلاقه من عدم تطبيق المبادئ الاسلامية في كثير من المجتمعات الاسلامية و من أجل اقامة نظام اسلامي علي أسس اسلامية . أ و ليس الأمر بالمعروف من أهم هذه الأسس ؟
و بهذه المناسبة نود أن نشير الي أهمية مراجعة بعض المفاهيم السياسية المستوردة من الغرب مثل البراغماتية و هل هي مفهوم ذات الدلالات الايجابية أم العكس صحيح ؟ و أين هذا المفهوم من المباديء و القيم الاسلامية ؟ أعتقد أن استعمال مثل هذه المفاهيم دون تحديد معناها بشكل دقيق و دون اقامة الحجة علي مشروعية ممارسات براغماتية , لا يزيدنا الا التباسا و لا يؤدينا الا الي فوضي المفاهيم و بالتالي الي غموض التحاليل السياسية من منظور اسلامي و رؤية اسلامية .
14 . بسبب الغموض الذي يحيط بمفهوم البراغماتية , لا يوجه الكتاب أية انتقاد لممارسات سياسة الخضوع و التبعية كاشارة محمد نور الدين مثلا الي ارسال أربكان الي المسؤولين الأميريكيين رسائل تطمين و الي تعليق صحيفة حزب أربكان علي زيارة السفير الأميركي لحزب الرفاه بأنها للتعرف عن قرب عليه (!) دون توجيه أية نقد ملحوظ ( قبعة و عمامة , ص, 81) كما وجه سهام النقد اليه بسبب اعلانه بأن حكومته مصممة علي استمرار العمل علي اندماج تركيا بأوروبا وبسبب دعوته السفير الاسرائلي الي المؤتمرالخامس لحزب الرفاه و عدم تلفظه و لو بكلمة عن قضية تحرير القدس ( قبعة و عمامة , ص , 82 ,95 ) . أ ليس معني البراغماتية في مثل هذه المواقف عين التناقض بين الخطاب و الممارسة ؟ ما الفرق اذن بين زعيم سياسي اسلامي و علماني ما داما مارسا السياسة نفسها , سياسة الخضوع و التبعية للغرب و للولايات المتحدة الأميركية و النظام الاسرائيلي خاصة ؟ اي موقف أقرب الي المباديء الاسلامية , موقف أربكان الاستسلامي أم معارضة زعماء الأميركية اللاتينية لسياسة الولايات المتحدة الاميركية الاستعمارية و سياسة اسرائيل القمعية مثل هوغو شاوز و أبو مورالس و فيدل قاسترو ؟ الا يصبح الاسلام بسياسة التبعية و الخضوع رمزا للاستسلام مع أنه يأمر المسلمين أن يجاهدوا بكل الوسائل ضد كل ممارسات القمع و الاستبداد و الاستعمار ؟
15 . و للاختصار نكتفي هنا بالاشارة الي أن جميع الملاحظات و الانتقادات الموجهة الي ممارسات أربكان البراغماتية( ! ) واردة في مفهوم ( التحول ) و ما قام به أربكان و حزبه من ممارسات التحول مثل اعلان ولائه لأتاتورك و اخلاصه لعلمانية و اختياره أسلوبا اعتذاريا وممارسته سياسة توافقية لكسب عطف المؤسسات الدستورية و علي رأسها العسكرية و الابتعاد عن كون الرفاه حزبا أيديولوجيا أوبتغبير آخر حزبا له مبادي و رؤية محددة ( قبعة و عمامة , ص 94 الي 97).و ليس لمفهوم التحول و ممارسات التحول معني سوى التراجع عن المبادئ والقيم و حتي عن الخطاب الا أن تطلق هذه الكلمة سلبا .
و الأمثلة علي هذا كثيرة و لعل من أبرزها علي هذا التحول أو بالأحري التراجع هو التحول الذي تعرضه كل من حزب أربكان و أردوغان علي السواء في موقفهم من المسألة الكردية حيث أظهر كل من أربكان و أردوغان موقفا لا يختلف عن موقف الجيش و القوميين المتشددين من الأتراك ( قبعة و عمامة ,ص , 96).
16 . الاهتمام بالشكل دون المضمون أو بتغيير الكوادر دون محاولة تغيير مؤسساتي جذري و بنيوي أمر شائع في خطابات و ممارسات جميع زعماء الدين يمارسون سياسة شعبوية مثلما نشاهده في محاولة أربكان لتحويل رئيس الشؤون الدينية الي شيخ الاسلام من جديد و ذلك باستمرار مدة ولاية الرئيس ما دام حيا . و بالرغم من أنه حلم من احلام أربكان الا أنه يعطينا أيضا فكرة عن تصوره السلطوي عن التغير الاداري و الاجتماعي , لأنه مؤمن بضرورة تغيير المجتمع من فوق و عن طريق مؤسسات الدولة و بامكان احداث تغيير في المؤسسات الحكومية و الدولية بتغيير المسؤولين الكبار . علما بأن هذا التصور كان سائدا في الشيوعية و الفاشية التي أثبتت التطورات فشلهما فضلا من أن تغيير المجتمعات و المؤسسات أمر جد معقد و صعب يحتاج الي تخطيط و اعداد كوادر مؤهلين و ليس الأمر بهذه البساطة ولعل تناول أربكان القضية ببساطة و كأنها عبارة عن تغيير رئيس فقط ربما كان بسبب بعده من نظرة اجتماعية و قربه من نظرة مييكانيكية تأثرا بتكونه العلمية الهندسية .هذا من جهة و من جهة أخري فان تجربة أربكان نفسها بجانب تجارب أحزاب أخري مثل حزب العدالة و التنمية أثبتت بأن تغيير رئيس الشؤون الدينية لم يحدث أية تغيير ملموس في الرئاسة و باختصار شديد لقد تغيرت الحكومات و لكن لم تتغيير الرئاسة كمؤسسة و لعل أشد المؤسسات الرسمية مقاومة للتغيير هو رئاسة الشؤون الدينية و الدليل علي ذلك عدم السماح لتواجد موظفين متعاطفين مع تيار أربكان في الرئاسة الا لعدد قليل جدا و علي فرض تواجدهم عدم السماح لترقيتهم الي مناصب ادارية مهمة و ذلك بسبب سيادة اسلام الدولة أو أيديولوجية تركيب الاسلام التركي في الرئاسة منذ تأسيس الجمهورية. و النقطة المهمة التي غفلت عنها أربكان هي هذه البنية الادارية و الأيديولوجية مع موقفها المعارض للفكر التجديدي رغم تظاهرها أمام الرأي العام بالانفتاح والتجدد .
17 . و اذا كان حزب أربكان( الرفاه ) ثم بعد ذلك حزب العدالة و التنمية قد تحولا بالفعل الي حزب اليمين المركزي , يجب علينا مناقشة أمر آخر و هو هل يصح تصنيفهما في سلك الحركات الاسلامية السياسية ( أنظر مثلا : “ اسلاميو تركيا… , ص , 66, 67, 68) ,مع تصريح ادريس بووانو بالذات بأن أردوغان اعتبر حزبه بأنه ليس وريثا لحزب اسلامي بقدر ما وريث الحزب الليبرالي و هو حزب العدالة الذي كان زعيمه عدنان مندريس (المصدر نفسه , ص , 67 , 68) وان صح ذلك كيف يتم التمييز بين هذين الحزبين و بين أحزاب يمينية أخري يتسم بوجود تيارات اسلامية في داخله ؟ لا بد من مناقشة هذا الأمر من منظور العلوم السياسية و العلوم الاسلامية و الفكر الاسلامي جميعا .
18 . هناك أمر جانبي و لكن له دلالته علي مدي انتقائية الكتاب في جمع المعلومات و هو مسألة تضخيم دور البعض مثل الف ابنة أربكان و ابنه فاتح و حسن حسين جيلان , بالاضافة الي المعلومات غير صحيحة عن مثل هؤلاء لأن الأخير لم يكن يوما من قيادة اتحاد الطلبة الوطني التركي حسب علمي كناشط في هذا الاتحاد سنوات عديدة و أما ابن و ابنة أربكان ليس لهما اية دور يذكر داخل الحركة .(أنظر , قبعة و عمامة , ص , 80 , 97 , 98 , 136 ) و كذلك القول بأن عبد الله غول أحد أقوي المنظرين للتيار التجديدي ( اسلاميو تركيا …العثمانيون الجدد , ص , 64) لأنه في الحقيقة من أبعد الناس من مفهومي “ التنظير “ و “ التيار التجديدي “ بل هو رجل براغماتي و ليس له أي صلة أو اهتمام بالفكر التجديدي و الذي فهمه من التجديد هو سياسة التوافق مع النظام و العمل من أجل مشروع الشرق الأوسط الكبير بدون تحفظ من التصريح بأن المشروع ليس له أي جانب سياسي مع أنه كذب صريح و محاولة صريحة لتشويه صورة الحقيقة ولخداع الجماهير. و كذلك كل الأرقام عن منسوبي المذاهب و الاعراق و ليس هناك أية معلومات احصائية لعدد الأكراد و العلويين مثلا و أما ما ذكره محمد نور الدين عن العلويين بأن عددهم يبلغ عشرين مليونا ( قبعة و عمامة, ص , 103 , 113) فمجرد تقدير كما صرح بذلك المؤلف و لا شك أن الاعتماد علي معلومات أرقامية دون اعتماد علي الاحصاآت تقلل من قيمة الكتاب و الثقة بالمؤلف .
19 . أليس من التناقض أن يتحدث كاتب طول كتابه عن تبني أربكان مبدأ الديموقراطية ثم يصرح بأن دور النساء في قيادة الحزب يعود تقديره في جميع الأحوال للحزب و للخوجا يعني أربكان ( قبعة و عمامة ,ص , 98) ؟ أين هذا من الديموقراطية و من الشوري ؟
20 . لابد من مراجعة ممارسات التقية و سياسة التراجع أو البراغماتية ( الأمس هو الأمس و اليوم هو اليوم ) في جميع الحركات الاسلامية من منظور اسلامي نظرا لعلاقتها بمفاهيم مثل خلف الوعود و الكذب و الخداع و الغش و ذلك لتحديد مدي شرعية هذه الممارسات أو بتعبير أصح , مدي اسلاميتها أو عدم اسلاميتها و ذلك لأن التجربة التركية أثبتت عدم جدوى مثل هذه الممارسات (أنظر الي أمثلة تحت عنوان : “ الاستراتيجية بين التقية و الواقع “ في قبعة و عمامة , ص , 99 ) بل أثبتت بأنها اساءة الي سمعة الاسلام و المسلمين باتهامهم باللامبدئية و استغلال الدين لمصالح سياسية و ليس من حق أحد , كائنا من كان , أن يلحق بالاسلام و المسلمين ضررا و لو باسم حركة سياسية اسلامية . الأمر الذي يوضح لنا أيضا خطر غياب روح المعارضة داخل الأحزاب الاسلامية ضد سلطة قيادات الأحزاب و زعماءها .
21 . و أما تفسير هذه الظاهرة بأن أربكان [و كذلك أردوغان ]كان مضطرا الي طمأنة النظام و الجيش و تسكين الانفعالات الهائجة المعارضة للاسلاميين لدي قطاع أساسي من الرأي العام ( قبعة و عمامة , ص, 102 ) فتفسير شائع لدي الجماهيرالاسلاميين أيضا و لكن لا أحد يسأل عن مدي مصداقيته و ذلك لأن أربكان و حزبه ينطلق من رؤية سلطوية للتغيير الاجتماعي و لكنها ليست هي السبيل الوحيد للتغيير , بل هناك بدائل أخري للتغيير الاجتماعي و السياسي أثبتت جدواها و نجاحها في التاريخ القريب و لكنها يطلب شجاعة و تحمل المسؤبية أمام المخاطر و سياسة حكيمة معتمدة بالدرجة الأولي علي سلطة الجماهير الأغلبية الساكتة بشرط توعيتها و توجيهها , لا سياسة تأثر و خوف من الأقلية المتغلبة , علما بأنهم لا يشكلون أبدا قطاعا أساسيا من الرأي العام بل هم أقلية و لكنهم يحاولون توجيه الرأي العام بشتى الوسائل و خاصة الاعلامية منها بالتعاون مع مراكز القوي الداخلية و الخارجية و ليس من المعقول الاستسلام الكامل لهؤلاء دون السعي وراء حل لهذه المشكلة وأما المفهوم الأساسي و المفتاح هو الشجاعة السياسية و الاستعداد لدفع ثمن و تضحية ولكن التطورات لمدة ثلاثين سنة أوضحت بأن زعماء الحركات الاسلامية في تركيا ليسوا أهلا لذلك و مما يدل علي ذلك تخوف أربكان من الدخول في السجن بسبب حكم المحكمة عليه و توسله بكل وسيلة لدرجة أن يجعل نفسه في موقف حرج جدا مثل تمارضه و قدومه الي المستشفي بكرسي دراجة للمرضي للحصول علي تقرير طبي و مغادرته المستشفي ماشيا سليما بعد حصوله علي التقرير و من الممكن تقديم أكثر عدد من الأمثلة علي مواقف التراجع أو ما يسمي بالممارسات البراغماتية و أمثلة أخرى علي هذا التخوف أو غياب شجاعة كافية عندهم مثل شجاعة أوزال مثلا , علما بأن الأمر سواء بالنسبة لأربكان و أردوغان لا فرق بينها .
22 . كثيرا ما نجد الكتاب و المحللين السياسيين يتحدثون عن قبول النظام العلماني باسلامي رأسا للحكومة كمحصلة لتجربة التعامل بين العلماني و الاسلامي في تركيا (أنظر مثلا : قبعة و عمامة , ص , 107 ) موهما بأن هناك تغير جذري و بنيوي في مواقف كل من التيارين “ للآخر “ أو أن هناك „اتجاه تصالحي“ أو التعايش و التفاهم أو „اعتراف متبادل و تقارب بين الطرفين“ أو أن الديموقراطية التركية احتوت بشكل سلمي أكبر تقاطب سياسي ايديولوجي في العالم العربي و الاسلامي و أشدهما حدة و قوة و هو الاستقطاب بين التيار العلماني و التيار الاسلامي (اسلاميو تركيا…,ص, 98 , 101 ,107 ) الأفضل أن يتجنب عن التسرع في اصدار مثل هذه الأحكام القطعية دون التأكد من واقعيتها و صحتها , لأن الذي يتتبع التطورات في أكثر من ثلاثين سنة لا يلقي صعوبة في التوصل الي عكس هذه الأحكام , بل و يتأكد بأن الجبهة العلمانية العسكرية لم تخفف من تشددها نحو الحركات الاسلامية كما أشار الي هذا التشدد ادريس بووانو نفسه في كتابه (اسلاميو تركيا…, ص , 99 , 100, 101 , 103 , 104 , 105) علما بأن المشكلة الأساسية في السياسة التركية ليست الاسلام الراديكالي كما يصوره البعض بل العلمانية الراديكالية التي لا تعترف ب“الآخر “ .
23. صحيح أن الاسلاميين مضطرون للتحرك في حدود ضيقة جدا , نظرا للقيود التي تفرضها بعض المواد الدستورية علي كل تحرك له طابع ديني أو مخالف للعلملنية و المبادئ الأتاتوركية و يستخدم النظام هذه التشريعات سيفا مصلتا , عند الحاجة , لمعاقبة زعماء الحركة الاسلامية و الحد من حركتهم بالاضافة الي دور الجيش المتدخل في السياسة ( قبعة و عمامة , ص , 107 , 108 ) و لكن تبرير تراجعات الحركة الاسلامية بناء علي هذه العوامل أمر يحتاج الي النظر , لأن المفروض أن يركزوا سياستهم علي ازالة هذه العوامل أو أن يأخذواها بعين الاعتبار قبل ممارسة النشاط الحزبي و أن يتجنبوا من تحديد أهداف لا يمكن تحقيقها في الظروف السياسية و الدستورية السائدة بدلا من أن يقدموا للجماهير يوطوبيا و أحلام غير واقعية .
الأمر بالنسبة لحزب العدالة و التنمية أوضح لأنه يملك في البرلمان ما يكفيه من المقاعد لتغيير الدستور و لكن غياب الشجاعة الكافية و التخطيط السليم و فقدان الخبرة عندهم في اللعبة السياسية أو بالأحري تأسيس الحزب بدون استعداد فكري و سياسي مسبقا و بعد القيادة عن فهم طبيعة النظام , كل ذلك أوقعهم في الازدواجية و التراجع و أخيرا الي التوافقية مع النظام العلماني متخليا عن هويته الاسلامية باخلاع قميص ( الرأي الوطني ) و لبس قميص المحافظ و الليبرالي و لبرلة الاقتصاد .
الأمر الذي يدفعنا الي التساءل عن مدي نجاح الحركة بشقيها كحركة اسلامية لا كأحزاب يمينية مركزية .
24 . و انطلاقا من الملاحظات المذكورة آنفا يجب أن نتساءل أيضا مدي صحة اعتبار سياسة التراجع و التخلي عن المبادئ سياسة “ النفس الطويل “ (قبعة و عمامة , ص , 112) و لا بد من التفرقة بين النفس الطويل و السياسة التوافقية و البراغماتية بالمعني السلبي .
25 . وأما التوقعات نحو نجاح الحركة الاسلامية و القوي العلمانية في الوصول الي “ نقطة وسط “ في صراعهما المرير ,و أنه سيكون سابقة في العالم الاسلامي كما في التاريخ الاسلامي . وأن تركيا ستكون , ربما من جديد , “ مختبرا “ آخر لنجربة فريدة ( قبعة و عمامة , ص , 118) فهي أقرب الي التمنيات منه الي اسقاط مستقبلي و واقعي .
26 . أما كتاب “ تركيا , الجمهورية الحائرة “ لمحمد نور الدين( بيروت ,1998) فيقدم المؤلف فيه معلومات أكثر واقعية و تحاليل أكثر انتقادا بالنسبة لكتابه (قبعة و عمامة) مع المحافظة علي موقفه المتفاءل من الحركة الاسلامية رغم العديد من السلبيات و التراجعات و الأخطاء التي لا مبرر لها بأي حال كما أشرنا و أشار الي بعضها محمد نور الدين في الفقرات السابقة .
27 . كل يعلم أن التسويف من أكثر الأساليب استعمالا من قبل السياسيين للتخلص من الاتهام بعدم الوفاء بالوعود السياسية و من أوضح الأمثلة علي ذلك تأجيل حزب العدالة و التنمية حل قضية الحجاب الي وقت غير معلوم بالاضافة الي تصريحات زعماء الحزب أن هذه القضية لا تشكل بالنسبة اليهم أولوية في الوقت الراهن و لذا فهي مدرجة في سلم الأولويات غير المستعجلة و حلها قد يأخذ الوقت ( اسلاميو تركيا… , ص , 85 ) مع أن الجميع يعلم يقينا أن المسلمين انما صوتوا لصالح الحزب لحل هذه القضية بشكل عاجل علي خيبة الأمل بعد فشل أربكان في حلها و اخلافه بذلك وعوده الصريحة لحل هذه القضية .لا غرابة في ذلك لأن أردوغان تلميذ أربكان لا فرق بينهما في عدم الوفاء بالوعود و تأجيلها الي وقت غير معلوم اتباعا لسياسة البراغماتية علي حساب مبادئ اسلامية كما عبر محمد نور الدين عن ازدواجية أربكان قائلا : “ ما كانت تدري نيرمين التي بكت عندما دخل زوجها نجم الدين قاعة المؤتمر تأثرا برحلته الطويلة الي السلطة , أن أربكان الجديد هو الوريث الفعلي لشعار سليمان ديميريل الشهير ( الأمس هو الأمس و اليوم هو اليوم) (قبعة و عمامة , ص , 98).
. الأمر الذي يشدنا بقوة الي اعادة النظر في مدي اسلامية مثل هذه الممارسات التي تمارسها احزاب اسلامية في الخطاب و براغماتية في الممارسة .
28 . أما قول ادريس بووانو بأن الليونة التي بدت علي مواقف حزب العدالة و التنمية لن يشفع له بالمضي بعيدا , فثمة خطوط قد رسمت من قبل , لن يتخطاها حزب العدالة و التنمية , و ان فعل ذلك فلن يكون مصيره أحسن من مصير الأحزاب السابقة عليه ( اسلاميو تركيا… , ص , 86 ) فيؤيدنا فيما وجهنا من انتقادات نحو بعض ممارسات براغماتية للحركة السياسية الاسلامية في تركيا و يبين لنا أن التقية أو الليونة أو البراغماتية أو المرونة أو المناورة أو ما يماثلها من السياسات لن يشفع للحركات الاسلامية لأن التجربة أحسن معلم و هي علمتنا و لا تزال تعلمنا أن لا فائدة في مثل هذه الممارسات و لا بد من سياسة جديدة بديلة لها , أقرب الي المبادئ الاسلامية علي أساس الشفافية و الصراحة و توعية الجماهير و تحشيدها نحو تحقيق أهداف محددة علي خطة مرسومة بالتعامل مع جميع قطاعات المجتمع علي أساس الحوار المفتوح و البناء و المنهج النقدي و النقد الذاتي دون ممارسة التقية و من دون اللجوء الي الأسلوب الاعتذاري أو الدفاعي.
29 . طالما صرح زعماء حزب العدالة و التنمية بأنهم سيلتزمون باحترام كل ثوابت الدولة التركية , كما سيبقون علي كل الاتفاقات المبرمة مع الدول الأخرى و أعلنوا أن حزبهم غير اسلامي و أنه حزب علماني , اما تقية أو مداراة (اسلاميو تركيا… , ص , 86 ) , اذن ما الفائدة في تسمية مثل هذه الأحزاب الاستسلامية أحزاب اسلامية , أليس تصنيفها أحزابا مركزية يمينية أقرب الي الحقيقة و الواقع كما اشار اليه محمد نور الدين في مواضع من كتابيه . الأمر الذي يدل علي تصورهم عن الاسلام و هو اسلام تقليدي وثقافي و فردي و جزئي و ليس اسلاما كرؤية عالمية شاملة له مبادئه و ثوابته لتغيير العالم الخارجي علي أصعدة مختلفة , و من أجل ذلك لا يمكن اعتبار مثل هذه الأحزاب ـ كأحزاب الرأي الوطني و حزب العدالة و التنمية ـ أحزاب اسلامية خالصة , بل ينبغي تصنيفها أحزابا يمينية ذات التوجه الاسلامي الي حد معين , أو بالأحرى , أحزابا يمينية مهتمة بالهوية الاسلامية أكثر بالمقارنة الي أحزاب يمينية أخرى .و لذا لا يجوز اعتبار منطلق حزب العدالة و التنمية منطلقا اسلاميا بمجرد انبثاقه من رحم تجربة أحزاب تبنت المرجعية الاسلامية و أن القول بأن أغلبية زعماء هذا الحزب قد تشبعوا المرجعية الاسلامية في أحزاب الرأي الوطني و أنه امتداد غير مباشر لحركة أربكان و أن ارثه ارث اسلامي , كل هذه التفسيرات( أنظر الي : اسلاميو تركيا… , ص , 86 , 87 , 100) بحاجة الي المراجعة و المناقشة .
30 . هناك أمر آخر لا بد من التنبيه عليه و هو وجوب التجنب من استعمال بعض الكلمات الموحية الي النفعية و اللامبدئية مثل كلمة “ الربح “ و أن حكومة حزب العدالة و التنمية كان أكبر رابح علي المستوى الداخلي و الخارجي بسبب احتلال العراق ( اسلاميو تركيا… , ص , 92 ) وكيف يتصور أن يتحدث كاتب مسلم عن ربح سياسي علي حساب دماء الأبرياء و احتلال أراضيهم و تدميرها ؟
31 . أما علاقة “ السلفية الأولي “ بالحركة الاسلامية السياسية في تركيا ـ علي حد قول ادريس بووانو ـ( اسلاميو تركيا… , ص , 107 ) فهي بحاجة الي التوضيح لأن السمة الغالبة علي الحركة الاسلامية هي اسلام تقليدي ـ فردي و صوفي الي حد ما كما اشار اليه محمد نور الدين في مواضغ من كتابيه و ادريس بووانو نفسه في مواضع من كتابه .
32 . أما القضايا التي طرحها ادريس بووانو فببالغ الأهمية و لكنها أسئلة , المفروض أن يسألها زعماء أحزاب اسلامية قبل الكاتب و هي : آ ـ الي أي مدى يمكن اعتبار اللعبة الديموقراطية مدخلا يعول عليه في عملية التغيير و الاصلاح السياسي في ظل الاكراهات الدولية ؟ , ب ـ هل الأمر يتعلق فقط بمزيد من الفهم و الاستيعاب لعراقيل و حدود هذه الاكراهات أم الأمر يتجاوز ذلك الي البحث عن خيارات أكثر قدرة على الصمود أمام شدة هذه الاكراهات ؟ , ج ـ ان امتلاك الأغلبية البرلمانيية غير كاف لانجاز البرامج التي وعدت بها هذه الحركات (اسلاميو تركيا… , ص , 93 , 94 ) و كذلك النتيجة التي توصل اليها فهي في غاية الأهمية : “ و هذا يدفعنا الي التأكيد علي محدودية الممارسة السياسية في كثير من دول عالمنا العربي و الاسلامي , و الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى للبحث جديا و السعي حثيثا نحو توسيع هامش هذه الممارسة بالشروط الديموقراطية , ثم استتباع ذلك بفتح المجال واسعا أمام باقي المداخل الأخرى( اسلاميو تركيا… و ص , 94 ) شريطة أن لا نقع فريسة لأميريكا الداعية الي الديموقراطية أيضا و لكن لتحقيق أهدافها الاستعمارية و أن لا نغفل عن تأييد و دعم مراكز القوى الغربية , الأوروبية و منها الاميريكية , للنظم المستبدة في العالم الاسلامي لمصالحها الاستعمارية أيضا .
33 .و ختاما نؤكد مرة أخرى علي أنه ليس هناك “ قدرا معتبرا من التطور و النجاح قد شهدتهما الساحة الديموقراطية التركية أدي الى احتواء احدى الاشكالات الكبرى بالمعنى الثقافي و السياسي داخل قيم و قواعد الديموقراطية و التعددية الحزبية“(اسلاميو تركيا… , ص , 109 , 110) لأن كل ما يبدوا تغيرا في تركيا ليس في الحقيقة الا تغيرات سطحية و تكتيكية و موقتة و لا ينبغي أن يغتر بهذه التطورات غير بنيوية و جذرية , لأن الصراع قائم بين الاسلام و العلمانية في تركيا و لكنه ليس بأزمة يستحيل التخلص منها , بل الحل ممكن اذا تحققت الشروط اللازمة و الظروف المناسبة لمناقشة القضايا المتعلقة بعلاقة الدين بالدولة و بتحديد مكانة الدين من الحياة الاجتماعية و ذلك مع اعتماد الطرفين عليي منهج موضوعي يقوم علي الفكر النقدي بعيدا عن تعصب ايديولوجي و ديني و ايمانا بامكان تعايش المبادئ الاسلامية مع مبدأ العلمانية التي تعني نظاما دستوريا يمنع الاستبداد و التحكم باسم الدين و لا تعني اقصاء الدين عن المجتمع , بل تضمن للدين أن يلعب دورا فعالا في جميع شرائح المجتمع و علي كل المستويات لخلق مجتمع له مبادؤه و قيمه العليا مثل العدل و الرفاهية و مساوات و احترام للحقوق الأساسية لكل انسان مع مراعات التعددية في الأعراف و التقاليد و العقائد و المذاهب و الفلسفات و عدم السماح للتمييز العنصري و الطبقي أو الجنسي أو الجهوي و مقدما مصالح المجتمع علي جميع الملاحظات الشخصية و المصالح الفردية أو الجماعية أو الطبقية و موسعا مجال الحريات الي أقصي ما يمكن توسيعه , مجانبا جميع أنواع الاستبداد و الضغط و التصلط و التحكم علي الغير و باختصار توجيه الجماهير نحو مجتمع عدل و ايمان , لا مجتمع ظلم و الالحاد .